فصل: (سورة الشورى: آية 10).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت: لم قال: {مِنْ فَوْقِهِنَّ}؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة: فوق السماوات، وهي: العرش، والكرسي، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا اللّه تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: {يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية. أو: لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ} فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة. وقيل: من فوقهنّ: من فوق الأرضين.
فإن قلت: كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء اللّه؟ وقد قال اللّه تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ} فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم؟ قلت: قوله: {لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} يدل على جنس أهل الأرض، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم، فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء اللّه وهم المؤمنون، فما أراد اللّه إلا إياهم. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وحكايته عنهم {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعا في استغفارهم، فكيف للكفرة. ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار: طلب الحلم والغفران في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} إلى أن قال: {إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا} وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ} والمراد: الحلم عنهم وأن لا يعاجلهم بالانتقام فيكون عاما. فإن قلت: قد فسرت قوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ} بتفسيرين، فما وجه طباق ما بعده لهما؟ قلت: أما على أحدهما فكأنه قيل: تكاد السماوات ينفط في هيبة من جلاله واحتشاما من كبريائه، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفا بعد صفوف يداومون- خضوعا لعظمته- على عبادته وتسبيحه وتحميده، ويستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته.
وأما على الثاني فكأنه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، والملائكة يوحدون اللّه وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، ويستغفرون لمؤمنى أهل الأرض الذين تبرؤا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم، لما عرفوا في ذلك من المصالح، وحرصا على نجاة الخلق، وطمعا في توبة الكفار والفساق منهم.

.[سورة الشورى: آية 6].

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياء} جعلوا له شركاء وأندادا {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيب على أحوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء، وهو محاسبهم عليها ومعاقبهم، لا رقيب عليهم إلا هو وحده {وَما أَنْتَ} يا محمد بموكل بهم ولا مفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.

.[سورة الشورى: آية 7].

{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قرآنا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}.
ومثل ذلك {أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها: من أنّ اللّه تعالى هو الرقيب عليهم، وما أنت برقيب عليهم، ولكن نذير لهم، لأنّ هذا المعنى كرره اللّه في كتابه في مواضع جمة، والكاف مفعول به لأوحينا. و{قرآنا عَرَبِيًّا} حال من المفعول به، أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربى بين، لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، ولا تتجاوز حدّ الإنذار. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر أوحينا، أى: ومثل ذلك الإيحاء البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك {لِتُنْذِرَ} يقال أنذرته كذا وأنذرته بكذا. وقد عدى الأوّل، أعنى: لتنذر أمّ القرى إلى المفعول الأوّل والثاني، وهو قوله: {وتنذر يوم الجمع} إلى المفعول الثاني {أُمَّ الْقرى} أهل أمّ القرى، كقوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقريَةَ} {وَمَنْ حَوْلَها} من العرب.
وقرئ: لينذر بالياء والفعل للقرآن {يَوْمَ الْجَمْعِ} يوم القيامة، لأنّ الخلائق تجمع فيه. قال اللّه تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} وقيل: يجمع بين الأرواح والأجساد. وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله. و{لا رَيْبَ فِيهِ} اعتراض لا محل له. قرئ: {فريق} و{فريق}، بالرفع والنصب، فالرفع على: منهم فريق، ومنهم فريق. والضمير للمجموعين، لأن المعنى: يوم جمع الخلائق.
والنصب على الحال منهم، أى: متفرّقين، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ}.
فإن قلت: كيف يكونون مجموعين متفرّقين في حالة واحدة؟ قلت: هم مجموعون في ذلك اليوم، مع افتراقهم في دارى البؤس والنعيم، كما يجتمع الناس يوم الجمعة متفرّقين في مسجدين. وإن أريد بالجمع: جمعهم في الموقف، فالتفرّق على معنى مشارفتهم للتفرّق.

.[سورة الشورى: آية 8].

{وَلَوْ شاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)}.
{لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً} أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله تعالى: {وَلَوْ شئنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} وقوله تعالى: {وَلَوْ شاء رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان: قوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ} تُكْرِهُ بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله. دليل على أنّ اللّه وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى: ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء. ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولى ولا نصير في عذابه.

.[سورة الشورى: آية 9].

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ (9)}.
معنى الهمزة في {أَمِ} الإنكار {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} هو الذي يجب أن يتولى وحده ويعتقد أنه المولى والسيد، فالفاء في قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} جواب شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه: إن أرادوا وليا بحق، فاللّه هو الولي بالحق، لا ولىّ سواه وَهُوَ يُحْيِ أى: ومن شأن هذا الولي أنه {يحيى الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء.

.[سورة الشورى: آية 10].

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ (10)}.
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْء} حكاية قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين. أي: ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين، فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى اللّه تعالى، وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين {ذلِكُمُ} الحاكم بينكم هو {اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ردّ كيد أعداء الدين {وَإليه} أرجع في كفاية شرهم. وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثروا على حكومته حكومته غيره، كقوله تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم، فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب اللّه والظاهر من سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: اللّه أعلم، كمعرفة الروح. قال اللّه تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}: فإن قلت: هل يجوز حمله على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة؟ قلت: لا، لأنّ الاجتهاد لا يجوز بحضرة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

.[سورة الشورى: آية 11].

{فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}.
{فاطِرُ السَّماواتِ} قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم. أو خبر مبتدإ محذوف، والجرّ على: فحكمه إلى اللّه فاطر السماوات، و{ذلِكُمُ إلى أُنِيبُ} اعتراض بين الصفة والموصوف {جَعَلَ لَكُمْ} خلق لكم {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} من جنسكم من الناس {أَزْواجًا وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجًا} أى: خلق من الأنعام أزواجا. ومعناه: وخلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم، يقال: ذرأ اللّه الخلق: بثهم وكثرهم. والذر، والذرو، والذرء: أخوات {فِيهِ} في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين. فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير، ألا تراك تقول. للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ} قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم: كان أبلغ من قولك:
أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: «ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته» والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كاللّه شيء، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفى المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} فإنّ معناه: بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها: لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئا آخر، حتى أنهم استعملوا فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد، كما كرّرها من قال:
وصاليات ككما يؤثفين

ومن قال:
فأصبحت مثل كعصف مأكول

يروى لرؤية بدله:
ولعبت طير بهم أبابيل ** فصيروا مثل كعصف مأكول

يقول: بالأمس، أى: في الزمن الماضي القريب، كانت تلك الديار مثلا في رخاء، أى: خصب وسعة من الثروة والغنى، مأمول ذلك، أى: متمنى للناس، وكرر كلمة التشبيه للتوكيد، والعصف: ما على الحب وعلى ساق الزرع من التين والورق اليابس، مأكول: أي أصابه الأكال، وهو الدود. وأكلته الدواب ثم راثته. وأبابيل، بمعنى جماعات متفرقة، صفة طير، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: واحده أبول كعجول. وقيل: إبال كمفتاح. وقيل إبيل كمسكين. وقول رؤية (صيروا) بالتشديد والبناء للمجهول، ولعل هذا رجز غيره ذاك.

.[سورة الشورى: آية 12].

{لَهُ مَقاليدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ (12)}.
وقرئ: ويقدّره. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ} فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه، وإلا أفقره.

.[سورة الشورى: آية 13].

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إليه اللَّهُ يَجْتَبِي إليه مَنْ يَشاء وَيَهْدِي إليه مَنْ يُنِيبُ (13)}.
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد اللّه وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال اللّه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا} ومحل أَنْ أَقِيمُوا إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}.
{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} عظم عليهم وشق عليهم {ما تَدْعُوهُمْ إليه} من إقامة دين اللّه والتوحيد {يَجْتَبِي إليه} يجتلب إليه ويجمع. والضمير للدين بالتوفيق والتسديد {مَنْ يَشاء} من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفا.

.[سورة الشورى: آية 14].

{وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}.
{وَما تَفَرَّقُوا} يعنى أهل الكتاب بعد أنبيائهم {إِلَّا مِنْ بَعْدِ} أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} حين افترقوا لعظم ما اقترفوا {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم {لَفِي شَكٍّ} من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك اللّه أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم، وذلك حين بعث اللّه إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم. وإنما اختلفوا للبغي بينهم. وقيل: وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وإنّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم هم المشركون: أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرئ: {ورّثوا}، {وورثوا}.

.[سورة الشورى: آية 15].

{فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أنزل الله مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإليه الْمَصِيرُ (15)}.